سورة المائدة - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


قوله تعالى: {من أجل ذلك} قال الضحاك: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً. وقال أبو عبيدة: من جناية ذلك، ومن جري ذلك. قال الشاعر:
وأهل خباءٍ صالحٍ ذَاتُ بينهم *** قدِ احتربوا في عاجِلٍ أنا آجِلُه
أي: جانيه وجارٌ ذلك عليهم. وقال قوم: الكلام متعلق بما قبله، والمعنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك. فعلى هذا يَحسن الوقف هاهنا، وعلى الأول لا يحسُن الوقف. والأول أصح. و{كتبنا} بمعنى: فرضنا. ومعنى {قتل نفساً بغير نفس} أي: قتلها ظلماً ولم تقتل نفساً.
{أو فسادٍ في الأرض} {فساد} منسوق على {نفس} المعنى: أو بغير فساد تستحق به القتل. وقيل: أراد بالفساد هاهنا: الشرك. وفي معنى قوله: {فكأنّما قتل الناس جميعاً} خمسة أقوال.
أحدها: أن عليه إِثم من قتل الناس جميعاً، قاله الحسن، والزجاج.
والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعاً، قاله مجاهد، وعطاء وقال ابن قتيبة: يُعذَّبُ كما يُعذَّب قاتل النَّاسِ جميعاً.
والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعاً، قاله ابن زيد.
والرابع: أن معنى الكلام ينبغي لجميع الناس أن يُعينوا ولي المقتول حتى يُقيدوه منه، كما لو قتل أولياءَهم جميعاً، ذكره القاضي أبو يعلى.
والخامس: أن المعنى: من قتل نبياً أو إِماماً عادلاً، فكأنما قتل الناس جميعاً، رواه عكرمة عن ابن عباس. والقول بالعموم أصح. فإن قيل: إِذا كان إِثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعاً، دل هذا على أنه لا إِثم عليه في قتل مَن يقتله بعد قتل الواحد إِلى أن يفنى الناس؟ فالجواب: أن المقدار الذي يستحقّه قاتل الناس جميعاً، معلوم عند الله محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإِثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلاً زاده الله إِثماً، ومثل هذا قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إِن قال: إِذا كان من أحيا نفساً فله ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلَّهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين. والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريبٌ منه، لأنه لا يجوز أن يكون إِثم قاتل شخصين كإثم قاتل شخص، وإِنما وقع التشبيه ب {كأنما}، لأن جميع الخلائِق من شخص واحد، فالمقتول يتصوّر منه نشر عدد الخلق كلِّهم.
وفي قوله: {ومَن أحياها} خمسة أقوال.
أحدها: استنقذها من هلكةٍ، روي عن ابن مسعود، ومجاهد. قال الحسن: من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: من شدَّ عَضُدَ نبي أو إِمامٍ عادِلٍ فكأنما أحيا الناس جميعاً.
والثاني: ترك قتل النفس المحرّمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية.
والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص، قاله الحسن، وابن زيد، وابن قتيبة.
والرابع: أن يزجر عن قتلها، وينهى.
والخامس: أن يعين الوليَّ على استيفاء القصاص، لأن في القصاص حياةً، ذكرهما القاضي أبو يعلى، وفي قوله: {فكأنّما أحيا الناس جميعاً} قولان:
أحدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعاً، قاله الحسن، وابن قتيبة.
والثاني: فعلى جميع الناس شكره، كما لو أحياهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات} يعني: بني إِسرائيل الذين جرى ذكرهم.


قوله تعالى: {إِنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} في سبب نزولها أربعة أقوال.
أحدها: أنها نزلت في ناسٍ من عُرَينة قدموا المدينة، فاجتَوَوْهَا، فبعثهم رسول الله في إِبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، وارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإِبل، فأرسل رسول الله في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمَّر أعينهم، وألقاهم بالحرَّة حتى ماتوا، ونزلت هذه الآية، رواه قتادة عن أنس، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي.
والثاني: أن قوماً من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخيّر الله رسوله بهذه الآية: إِن شاء أن يقتلهم، وإِن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والثالث: أن أصحاب أبي بُردة الأسلمي قطعوا الطريق على قومٍ جاؤوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن السائِب: كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يُهَجْ، ومن مرّ بهلال إِلى سول الله صلى الله عليه وسلم لم يُهِجْ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناسٍ من قوم هلال فَنَهَدُوا إِليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضراً، فنزلت هذه الآية.
والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. واعلم أن ذكر المحاربة لله عز وجل في الآية مجاز.
وفي معناها للعلماء قولان:
أحدهما: أنه سمّاهم محاربين له تشبيهاً بالمحاربين حقيقة، لأن المخالف محارب، وإِن لم يحارب، فيكون المعنى: يخالفون الله ورسوله بالمعاصي.
والثاني: أن المراد: يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير: أراد بالمحاربة لله ورسوله، الكفر بعد الاسلام. وقال مقاتل: أراد بها الشرك. فأما{الفساد} فهو القتل والجراح وأخذ الأموال، وإِخافة السبيل.
قوله تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا} اختلف العلماء هل هذه العقوبة على الترتيب، أم على التخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب، وأنهم إِذا قتلوا، وأخذوا المال، أو قتلوا ولم يأخذوا، قُتِلوا وصلِّبوا، وإِن أخذوا المال، ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإِن لم يأخذوا المال، نُفوا. قال ابن الأنباري: فعلى هذا تكون {أو} مبعّضة، فالمعنى: بعضهم يفعل به كذا، وبعضهم كذا، ومثله قوله: {كونوا هوداً أو نصارى} [البقرة: 135].
المعنى: قال بعضهم هذا، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين.
وقال الشافعي: إِذا قتلوا وأخذوا المال، قُتِلوا وصُلِّبوا، وإِذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلَّبوا، وإِذا أخذوا المال ولم يَقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وقال مالك: الإِمام مخير في إِقامة أيِّ الحدود شاء، سواء قتلوا أو لم يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا، والصلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة، ومالك: يُصْلب ويُبعج برمحٍ حتى يموت. واختلفوا في مقدار زمان الصّلب، فعندنا أنه يُصلب بمقدار ما يشتهر صلبُه. واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم: يترك حتى يسيل صديده. قال أبو عبيدة: ومعنى {من خلاف} أن تُقطَع يدُه اليُمنى ورجله اليسرى، يُخالَف بين قطعهما. فأما النفي فأصله الطرد والإِبعاد.
وفي صفة نفيهم أربعة أقوال.
أحدها: إِبعادهم من بلاد الاسلام إِلى دار الحرب، قاله أنس بن مالك، والحسن، وقتادة، وهذا إِنما يكون في حق المحارب المشرك، فأما المسلم فلا ينبغي أن يُضطر إِلى ذلك.
والثاني: أن يُطلبوا لِتُقام عليهم الحدود، فيُبعدوا، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثالث: إِخراجهم مِن مدينتهم إِلى مدينة أُخرى، قاله سعيد بن جبير.
وقال مالك: ينفى إِلى بلدٍ غير بلده، فيحبس هناك.
والرابع: أنه الحبس، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا: صِفَةُ النفي: أن يُشرّد ولا يترك يأوي في بلد، فكلما حَصَل في بلد نُفي إِلى بلد غيره.
وفي الخزي قولان:
أحدهما: أنه العقاب. والثاني: الفضيحة.
وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي، وأبو يوسف: المصر والصحارى سواء، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب، كما يُعتبر في حقِّ السَّارِقِ، خلافاً لمالك.


قوله تعالى: {إِلا الذين تابوا} قال أكثر المفسّرين: هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إِذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دمٍ، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن حدود الله تسقط عنهم مِن انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشافعي.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14